فصل: ذكر من ظهر بسواد العراق من القرامطة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ابتداء حال أبي عبد الله البريديّ وإخوته:

لّما وليَ عليُّ بن عيسى الوزارة كان أبو عبد الله بن البريديّ قد ضمن الخاصّة، وكان أخوه أبو يوسف على سُرّق، فلمّا استعمل عليُّ بن عيسى العمّال، ورتّبهم في الأعمال، قال أبو عبد الله: تُقلِّد مثل هؤلاء على هذه الأعمال الجليلة، وتقتصر بي على ضمان الخاصّة بالأهواز، وبأخي أبي يوسف على سُرق! لعن الله مَن يقنع بهذا منك، فإنّ لطبلي صوتاً سوف يُسْمع بعد أيّام.
فلمّا بلغه اضطراب أمر عليّ بن عيسى أرسل أخاه أبا الحسين إلى بغداد وأمره أن يخطب له أعمال الأهواز وما يجري معها إذا تجدّدت وزارة لمن يأخذ الرّشى، ويرتفق؛ فلمّا وزَر أبو عليّ بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على ذلك، فقلّد أبا عبد الله الأهواز جميعها، سوى السُّوس وجُنْدَيْسابور، وقلّد أخاه أبا الحسين الفراتيّة، وقلّد أخاهما أبا يوسف الخاصّة والأسافل، على أن يكون المال في ذمّة أبي أيّوب السمسار إلى أن يتصرّفوا في الأعمال.
وكتب أبو عليّ بن مقلة إلى أبي عبد الله في القبض على ابن أبي السلاسل، فسار بنفسه فقبض عليه بتُستَر، وأخذ منه عشرة آلاف دينار ولم يوصلها، وكان متهوّراً لا يفكّر في عاقبة أمر، وسيرد من أخبراه ما يُعلم به دهاؤه، ومكره، وقلّة دينه، وتهوّره.
ثمّ إنّ أبا عليّ بن مقلة جعل أبا محمّد الحسين بن أحمد الماذرائي مشرفاً على أبي عبدالله، فلم يلتفت إليه.
البريديُّ بالباء الموحدة والراء المهملة منسوب إلى البَريد، هكذا ذكره الأمي ابن ماكولا، وقد ذكره ابن مِسكويه بالياء المعجمة باثنتين من تحت، والزي، وقال: كان جدّه يخدم يزيد بن منصور الحميريّ، فنُسب إليه، والأوّل أصحّ، وما ذكرنا قول ابن مِسكويه إلاّ حتّى لا يظنّ ظانّ أنّنا لم نقف عليه، وأخطأنا الصواب.

.ذكر من ظهر بسواد العراق من القرامطة:

لّما كان من أمر أبي طاهر القُرمُطيّ ما ذكرناه، اجتمع من كان بالسواد ممّن يعتقد مذهب القرامطة فيكتم اعتقاده خوفاً، فأظهروا اعتقادهم، فاجتمع منهم بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف رجل، وولّوا أمرَهم رجلاً يُعرف بحُرَيث بن مسعود، واجتمع طائفة أخرى بعين التمر ونواحيها في جمع كثير، وولّوا أمرَهم إنساناً يسمّى عيسى بن موسى، وكانوا يدعون إلى المهديّ.
وسار عيسى إلى الكوفة، ونزل بظاهرها، وجبى الخراج، وصرف العمّال عن السواد.
وسار حُريث بن مسعود إلى أعمال الموفقي وبنى بها داراً سمّاها دار الهجرة، واستولى على تلك الناحية، فكانوا ينهبون، ويسبون، ويقتلون، وكان يتقلّد الحرب بواسط بنّيّ بن نفيس، فقاتلهم، فهزموه، فسيّر المقتدر بالله إلى حُريث ابن مسعود ومَن معه هارونَ بن غريب، وإلى عيسى بن موسى ومَن معه بالكوفة صافياً البصريَّ، فأوقع بهم هارون، وأوقع صافي بمن سار إليهم، فانهزمت القرامطة، وأُسر منهم كثير، وقُتل أكثر ممّن أُسر، وأُخذت أعلامهم، وكانت بيضاً، وعليها مكتوب: {وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين} القصص: 5 فأُدخلت بغداد منكوسة، واضمحل أمر من بالسواد منهم، وكفى الله الناس شرّهم.

.ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب:

وفيها وقعت الفتنة بين نازوك، صاحب الشُّرطة، وهارون بن غريب.
وسبب ذلك أنّ ساسة دوابّ هارون بن غريب وساسة نازوك تغايروا على غلام أمرد، وتضاربوا بالعصى، فحبس نازوك ساسة دوابّ هارون، بعد أن ضربهم، فسار أصحاب هارون إلى محبس الشُّرطة، ووثبوا على نائب نازوك به، وانتزعوا أصحابهم من الحبس، فركب نازوك، وشكا إلى المقتدر وقال: كلاكما عزيز عليّ ولست أدخل بينكما؛ فعاد وجمع رجاله، وجمع هارون رجاله، وزحف أصحاب نازوك إلى دار هارون، فأغلق بابه، وبقي بعض أصحابه خارج الدار، فقتل منهم أصحاب نازوك، وجرحوا، ففتح هارون الباب، وخرج أصحابه، فوضعوا السلاح في أصحاب نازوك فقتلوا منهم، وجرحوا، واشتبكت الحرب بينهم، فكفّ نازوك أصحابه.
وأرسل الخليفة إليهما ينكر عليهما ذلك، فكفّا، وسكنت الفتنة، واستوحش نازوك، واستدّل بذلك على تغيّر المقتدر، ثمّ ركب إليه هارون وصالحه، وخرج بأصحابه، ونزل بالبستان النجميّ ليبعد عن نازوك، فأكثر الناس الأراجيف وقالوا: قد صار هارون أمير الأمراء؛ فعظم ذلك على أصحاب مؤنس، وكتبوا إليه بذلك، وهو بالرَّقّة، فأسرع العود إلى بغداد فنزل بالشّمّاسيّة في أعلى بغداد، ولم يلق المقتدر، فصعد إليه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر، والوزير ابن مقلة، فأبلغاه سلام المقتدر واستيحاشه له، وعاد فاستشعر كلّ واحد من المقتدر ومؤنس من صاحبه، وأحضر المقتدر هارون ابن غريب، وهو ابن خاله، فجعله معه في داره، فلمّا علم مؤنس بذلك ازداد نفوراً واستيحاشاً، وأقبل أبو الهيجاء بن حَمدان من بلاد الجبل، فنزل عند مؤنس ومعه عسكر كبير، وصارت المراسلات بين الخليفة ومؤنس تتردّد، والأمراء يخرجون إلى مؤنس، وانقضت السنة وهم على ذلك.

.ذكر قتل الحسن بن القاسم الداعي:

في هذه السنة قُتل الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ، وقد ذكرنا استيلاء أسفار بن شيرويه الدَّيلميّ على طَبَرِستان، ومعه مرداويج، فلمّا استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالرَّيّ، واستولى عليها، وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد، واستولى على قَزوين، وزنجان، وأبهر، وقُمّ، وكان معه ما كان بن كالي الديلميُّ، فسار نحو طَبَرستان، والتقوا هم وأسفار عند سارية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسن وما كان بن كالي، فلُحق الحسن فقُتل، وكان انهزام معظم أصحاب الحسن على تعمُّدٍ منهم للهزيمة.
وسبب ذلك أنّه كان يأمر أصحابه بالاستقامة، ومنعهم عن ظلم الرعبّية، وشرب الخمور، وكانوا يبغضونه لذلك، ثمّ اتّفقوا على أن يستقدموا هروسندان وهو أحد رؤساء الجيل، وكان خال مردوايج ووشمكير، ليقدّموه عليهم، ويقبضوا على الحسن الداعي، وينصِّبوا أبا الحسين بن الأطروش، ويخطبوا له.
وكان هروسندان مع أحمد الطويل بالدَّامَغان بعد موت صُعلوك، فوقف أحمد على ذلك، فكتب إلى الحسن الداعي يعلمه، فأخذ حذره، فلمّا قدم هروسندان لقيه مع القوّاد، وأخذهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا طعاماً، ولم يعلموا أنّه قد اطلع على ما عزموا عليه، وكان قد وافق خواصّ أصحابه على قتلهم، وأمرهم بمنع أصحاب أولئك القوّاد من الدخول؛ فلمّا دخلوا داره قابلهم على ما يريدون أن يفعلوه، وما أقدموا عليه من المنكرات التي أحلّت له دماءهم، ثمّ أمر بقتلهم عن آخرهم، وأخبر أصحابهم الذين ببابه بقتلهم، وأمرهم بنهب أموالهم، فاشتغلوا بالنهب، وتركوا أصحابهم، وعظم قتلهم على أقربائهم ونفروا عنه، فلمّا كانت هذه الحادثة تخلّوا عنه حتّى قُتل.
ولّما قُتل استولى أسفار على بلاد طَبرستان، والرَّيّ، وجُرجان، وقَزوين، وزنجان، وأبهر، وقُمّ، والكَرْخ، ودعا لصاحب خُراسان، وهو السعيد نصر بن أحمد، وأقام بسارية، واستعمل على آمل هارون بن بَهرام، وكان هارون يحتاج أن يُخطب فيها لأبي جعفر العلويّ، وخاف أسفار ناحية أبي جعفر أن يجدّد له فتنة وحرباً، فاستدعى هارون إليه، وأمره أن يتزوّج إلى أحد أعيان آمل، ويُحضر عرسه أبا جعفر وغيره من رؤساء العلويّين، ففعل ذلك في يوم ذكره أسفار، ثمّ سار أسفار من سارية مجدّاً فوافى آمل وقت الموعد، وهجم على دار هارون على حين غفلة، وقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويّين، وحملهم إلى بخارى، فاعتُقلوا بها إلى أن خلصوا أيّام فتنة أبي زكرياء، على ما نذكره.
ولّما فرغ أسفار من أمر طَبَرِستان سار إلى الرَّيّ، وبها ما كان بن كالي، فأخذها منه، واستولى عليها، وسار ما كان إلى طَبرستان، فأقام هناك.
وأحبّ أسفار أن يستولي على قلعة أَلُموت، وهي قلعة على جبل شاهق من حدود الديلم، وكانت لسياه جشم بن مالك الديلمي، ومعناه الأسود العين لأنّه كان على إحدى عينَيْه شامة سوداء، فراسله أسفار وهنّأه، فقدم عليه، فسأله أن يجعل عياله في قلعة أَلُموت، وولاّه قَزوين، فأجابه إلى ذلك، فنقلهم إليها، ثمّ كان يرسل إليهم من يثق به من أصحابه، فلمّا حصل فيها مائة رجل استدعاه من قَزوين فلمّا حضر عنده قبض عليه، وقتله بعد أيّام.
وكان أسفار لّما اجتاز بسُمْنَان استأمن إليه ابن أمير كان صاحب جبل دنباوند، وامتنع محمّد بن جعفر السُّمنانيُّ من النزول إليهن وامتنع بحصن بقرية رأس الكلب، فحقدها عليه أسفار، فلمّا استولى على الرَّيّ أنفذ إليه جيشاً يحصرونه، وعليهم إنسان يقال له عبد الملك الديلميُّ، فحصروه، ولم يمكنهم الوصول إليه، فوضع عليه عبد الملك مَن يشير عليه بمصالحته، ففعل، وأجابه عبد الملك إلى المسألة، ثمّ وضع عليه من يحسّن له أن يضيف عبد الملك، فأضافه، فحضر في جماعة من شجعان أصحابه، فتركهم تحت الحسن، وصعد وحده إلى محمّد بن جعفر، فتحادثا ساعة، ثمّ استخلاه عبد الملك ليشير إليه شيئاً، ففعل ذلك، ولم يبق عندهما أحد غير غلام صغير، فوثب عليه عبد الملك فقتله، وكان محمّد منقرساً زمناً، وأخرج حبل إبرِيسَم كان قد أعدّه فشدّه في نافذة في تلك الغرفة ونزل وتخلّص.
واستغاث ذلك الغلام، فجاء أصحاب محمّد بن جعفر وكسروا الباب، وكان عبد الملك قد أغلقه، فلمّا دخلوا رأوه مقتولاً، فقتلوا به كلّ من عندهم من الديلم، وحفظوا نفوسهم.
وعظمت جيوش أسفار، وجلّ قدره، فتجبّر وعصى على الأمير السعيد، صاحب خُراسان، وأراد أن يجعل على رأسه تاجاً وينصب بالرَّيّ سرير ذهب للسلطنة، ويحارب الخليفة، وصاحب خُراسان، فسير المقتدر إليه هارون بن غريب في عسكر نحو قَزوين، فحاربه أصحاب أسفار بها، فانهزم هارون، وقُتل من أصحابه جمع كثير بباب قَزوين، وكان أهل قزوين قد ساعدوا أصحاب هارون، فحقدها عليهم أسفار.
ثمّ إنّ الأمير السعيد، صاحب خُراسان، سار من بخارى قاصداً نحو أسفار ليأخذ بلاده، فبلغ نَيسابور، فجمع أسفار عسكره وأشار على أسفار وزيره مُطَرّف بن محمّد الجُرجانيُّ بمراسلة صاحب خُراسان، والدخول في طاعته، وبذل المال له، فإنّ أجاب، وإلاّ فالحرب بين يديه.
وكان في عسكره جماعة من أتراك صاحب خُراسان قد ساروا معه، فخوّفه وزيره منهم، فرجع إلى رأيه وراسله، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وعزم على المسير إليه، فأشار عليه أصحابه أن يقبل الأموال، وإقامة الخطبة له، وخوّفوه الحرب وأنّه لا يدري لمن النصر، فرجع إلى قولهم، وأجاب أسفار إلى ما طلب، وشرط عليه شروطاً من حمل الأموال وغر ذلك، واتّفقا، فشرع أسفار بعد إتمام الصلح، وقسّط على الريّ وأعمالها، على كلّ رجل ديناراً، سواء كان من أهل البلاد أم من المجتازين، فحصل له مال عظيم أرضى صاحب خُراسان ببعضه، ورجع عنه.
فعظم أمر أسفار خلاف ما كان، وزار تجبُّره، وقصد قَزوين لما في نفسه على أهلها، فأوقع بهم وقعة عظيمة أخذ فيها أموالهم، وعذّبهم، وقتل كثيراً منهم، وعسفهم عَسفاً شديداً، وسلَّط الديلم عليهم، فضاقت الأرض عليهم، وبلغت القلوب الحناجر، وسمع مؤذّن الجامع يؤذّن، فأمر به فأُلقي من المنارة إلى الأرض، فاستغاث الناس من شرّه وظلمه، وخرج أهل قزوين إلى الصحراء: الرجال: والنساء، والولدان يتضرّعون ويدعون عليه ويسألون الله كشف ما هم فيه، فبلغه ذلك، فضحك منهم، وشتمهم استهزاء بالدعاء، فلمّا كان الغد انهزم على ما نذكره.

.ذكر قتل أسفار:

كان في أصحاب أسفار قائد من أكبر قوّاده يقال له مَرداويج بن زيار الديلميّ، فأرسله إلى سلار صاحب شميران الطرم يدعوه إلى طاعته، وسلار هذا هو الذي صار ولده فيما بعد صاحب أذربيجان وغيرها، فلّما وصل مرداويج إليه تشاكيا ما كان الناس فيه من الجهد والبلاء، فتحالفا، وتعاقدا على قصده، والتساعد على حربه.
وكان أسفار قد وصل إلى قزوين، وهو ينتظر وصول مرداويج بجوابه، فكتب مرداويج إلى جماعة من القوّاد يثق بهم يعرّفهم ما اتّفق هو وسلار عليه، فأجابوه إلى ذلك؛ وكان الجند قد سئموا أسفار لسوء سيرته، وظلمه، وجوره، وكان في جملة من أجاب إلى مساعدة مَرداويج مطرّف بن محمّد، وزير أسفار، وسار مرداويج وسلار نحو أسفار، وبلغه الخبر، وأن أصحابه قد بايعوا مرداويج، فأحسّ بالشرّ، وكان ذلك عقيب حادثته مع أهل قزوين ودعائهم، وثار الجند بأسفار، فهرب منهم في جماعة من غلمانه وورد الريّ، فأراد أن يأخذ من مال كان عند نائبه بها شيئاً، فلم يعطه غير خمسة آلاف دينار، وقال له: أنت أمير ولا يعوزك مال؛ فتركه وانصرف إلى خُراسان، فأقام بناحية بَيهق.
وأمّا مرداويج فإنّه عاد من قزوين نحو الرَّي، وكتب إلى ما كان بن كالي، وهو بَطَبرستان، يستدعيه ليتساعدا ويتعاضدا، فسرى ما كان بن كالي إلى أسفار، وكان قد عسف أهل الناحية التي هو بها، فلّما أحسّ بما كان سار إلى بُست، وركب المفازة نحو الريّ ليقصد قلعة أَلْموت التي بها أهله وأمواله، فانقطع عنه بعض أصحابه، وقصد مرداويج فأعلمه خبره، فخرج مرداويج من ساعته في أثره، وقدّم بعض قوّاده بين يديه، فلحقه ذلك القائد وقد نزل يستريح، فسلّم عليه بالإِمْرة، فقال له أسفار: لعلّكم اتّصل بكم خبري وبُعثتَ في طلبي؟ قال: نعم؟! فبكى أصحابه، فأنكر عليهم أسفار ذلك، وقال: بمثل هذه القلوب تتجنّدون! أما علمتم أنّ الولايات مقرونة بالبليّات؟ ثمّ أقبل على ذلك القائد وهو يضحك، وسأله عن قوّاده الذين أسلموه وخذلوه، فأخبره مرداويج قتلهم، فتهلّل وجهه وقال: كانت حياة هؤلاء غصّة في حلقي، وقد طابت الآن نفسي، فامض في ما أُمرتَ به، وظنّ أنّه أُمر بقتله، فقال: ما أُمرتُ فيك بسوء؛ وحمله إلى مرداويج، فسلّمه إلى جماعة أصحابه ليحمله إلى الريّ، فقال له بعض أصحابه: إنّ أكثر مَن معك كانوا أصحاب هذا، فانحرفوا عنه إليك، وقد أوحشتَ أكثرهم بقتل قوّادهم فما يؤمنك أن يرجعوا إليه غداً ويقبضوا عليك؟ فحينئذ أمر بقتله وانصرف إلى الريّ.
وقيل في قتله: أنّه لمّا عاد نحو قلعة أَلْموت نزل في وادٍ هناك يستريح، فاتّفق أنّ مَرداويج خرج يتصيّد، ويسأل عن أخباره، فرأى خيلاً يسيرة في وادٍ هناك، فأرسل بعض أصحابه ليأخذ خبرها، فرأوا أسفار بن شِيرويه في عدّة يسيرة من أصحابه، يريد الحصن ليأخذ ما له فيه ويستعين به على جمع الجيوش، ويعود إلى محاربة مرداويج، فأخذوه ومن معه، وحملوه إلى مرداويج، فلمّا رآه نزل إليه فذبحه.
واستقرّ أمر مرداويج في البلاد، وعاد إلى قَزوين بعد قتل أسفار، فأحسن إلى أهلها، ووعدهم الجميل.
وقيل: بل دخل أسفار إلى رحى، وقد نال منه الجوع، فطلب من الطحّان شيئاً يأكله، فقدّم له خبزاً ولبناً، فأكل منه هو وغلام له ليس معه غيره، فأقبل مرداويج إلى تلك الناحية، فأشرف على الرحى فرأى أثر حوافر الدوابّ، فسأل عنها، فقيل له: قد دخل فارسان إلى هذه الرحى؛ فكبس مرداويج الرحى، فرآه وقتله.

.ذكر ملك مرداويج:

ولّما انهزم أسفار من مرداويج ابتدأ في ملك البلاد، ثمّ إنّه ظفر بأسفار فتمكّن ملكه وثبت، وتنقّل في البلاد يملكها مدينة مدينةً، وولايةً ولايةً، فملك قَزوين، ووعدهم الجميل فأحبّوه، ثمّ سار إلى الرَّي فملكها، وملك هَمَذان، وكَنْكُور، والدِّينَور، وبُروجَرد، وقُمّ، وقاشان، وأصبهان، وجرباذقان وغيرهما.
ثمّ إنّه أساء السيرة في أهل أصبهان خاصّة، وأخذ الأموال، وهتك المحارم، وطغى، وعمل له سريراً من ذهب يجلس عليه، وسريراً من فضّة يجلس عليه أكابر قوّاده، وإذا جلس على السرير يقف عسكره صفوفاً بالعبد منه، ولا يخاطبه أحد ألاّ الحجّاب الذين رتّبهم لذلك، وخافه الناس خوفاً شديداً.

.ذكر ملك مرداويج طبرستان:

قد ذكرنا اتّفاق ما كان بن كالي مع مرداويج، ومساعدته على أسفار، فلّما استقرّ ملك مرداويج، وقوي أمره، وكثرت أمواله وعساكره، طمع في جُرجان، وطَبَرِستان، وكانتا مع ما كان بن كالي، فجمع عساكره وسار إلى طَبرِستان، فثبت له ما كان، فاستظهر عليه مرداويج، واستولى على طبرستان ورتّب فيها بلْقاسم بن بانجين، وهو اسفهسلار، وعسكره، وكان حازماً، شجاعاً، جيّد الرأي.
ثمّ سار مرداويج نحو جُرجان، وكان بها من قبل ما كان شيرزيل ابن سلار، وأبو عليّ بن تركي، فهربا من مرداويج، وملكها مرداويج، ورتّب فيها سرخاب بن باوس، خال ولد بلاسم بن بانجين، خليفة عن بلقاسم، فجمع بلقاسم جُرجان، وطبرستان، وعاد مرداويج إلى أصبهان ظافراً غانماً.
وسار ما كان إلى الديلم واستنجد أبا الفضل الثائر بها، فأكرمه، وسار معه إلى طبرستان فلقيهما بلقاسم، وتحاربوا، فانهزم ما كان والثائر، فأمّا الثائر فقصد الديلم، وأمّا ما كان فسار إلى نَيسابور، فدخل في طاعة السعيد نصر، واستنجده، فأمّده بأكثر جيشه، وبالغ في تقويته، ووصل إليه ما كان وأبو عليّ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أبو عليّ وما كان وعادا إلى نَيسابور، ثمّ عاد ما كان بن كالي إلى الدَّامَغان ليتملّكها، فسار نحوه بلقاسم فصدّه عنها، فعاد إلى خُراسان، وسنذكر باقي أخبار ما كان فيما بعد.

.ذكر عدّة حوادث:

فيها كان ابتداء أمر أبي يزيد الخارجيّ بالمغرب، وسنذكر أمره سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة مستقصى.
وفيها ظهر بسِجِستان خارجيٌّ، وسار في جمع إلى بلاد فارس يريد التغلّب عليها، فقتله أصحابه قبل الوصول إليها، وتفرّقوا.
وفيها صُرف أحمد بن صر العشوريُّ عن حجبة الخليفة وقُلّدها ياقوت، وكان يتولّى الحرب بفارس، وهو بها، فاستخلف على الحجبة ابنه أبا الفتح المظفَّر.
وفيها وصل الدُّمُسْتُق في جيش كثير من الروم إلى أرمينية، فحصروا خلاط، فصالحه أهلها، ورحل عنهم بعد أن أخرج لمنبر من الجامع وجعل مكانه صليباً، وفعل بَبدْلِيس كذلك، وخافه أهل أرْزَن وغيرهم، ففارقوا بلادهم، وانحدر أعيانهم إلى بغداد، واستغاثوا إلى الخليفة، فلم يُغاثوا.
وفيها وصل سبعمائة رجل من الروم والأرمن إلى مَلَطْية ومعهم الفؤوس والمعاول، وأظهروا أنّهم يتكسّبون بالعمل، ثم ظهر أنّ مليحاً الأرمنيّ، صاحب الدروب، وضعهم ليكونوا بها، فإذا حصرها سلّموها إليه، فعلم بهم أهل مَلَطْية، فقتلوهم وأخذوا ما معهم.
وفيها، في منتصف ربيع الأوّل، قُلّد مؤنس المؤنسيُّ الموصل وأعمالها.
وفيها مات أبو بكر بن أبي داود السِّجِستانيُّ، وأبو عُوانة يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم الأسفراينيُّ، وله مسند مخرج على صحيح مسلم.
وفيها توفيّ أبو بكر محمّد بن السريّ النحويُّ المعروف بابن السّراج، صاحب كتاب الأصول في النحو. ثم دخلت:

.سنة سبع عشرة وثلاثمائة:

.ذكر خلع المقتدر:

في هذه السنة خُلع المقتدر بالله من الخلافة، وبويع أخوه القاهر بالله محمّد ابن المعتضد، فبقي يومَيْن ثمّ أُعيد المقتدر.
وكان سبب ذلك ما ذكرنا في السنة التي قبلها من استيحاش مؤنس ونزوله بالشَّمّاسيّة، وخرج إليه نازوك، صاحب الشُّرطة، في عسكره، وحضر عنده أبو الهيجاء بن حَمدان في عسكره من بلد الجبل، وبنّيّ بن نفيس، وكان المقتدر قد أخذ منه الدِّينَور، فأعادها إليه مؤنس عند مجيئه إليه.
وجمع المقتدر عنده، في داره، هارون بن غريب، وأحمد بن كَيْغَلَغ، والغلمان الحجريّة، والرجّالة المصافيّة، وغيرهم، فلّما كان آخر النهار ذلك اليوم انقضّ أكثر مَن عند المقتدر، وخرجوا إلى مؤنس، وكان ذلك أوائل المحرّم.
ثم كتب مؤنس إلى المقتدر رقعة يذكر فيها أنّ الجيش عاتبٌ منكرٌ للسرف فيما يُطلق باسم الخدم والحُرَم من الأموال والضِّياع، ولدخولهم في الرأي وتدبير المملكة، ويطالبون بإخراجهم من الدار، وأخذ ما في أيديهم من الأموال والأملاك، وإخراج هارون بن غريب من الدار.
فأجابه المقتدر أنّه يفعل من ذلك ما يمكنه فعله، ويقتصر على ما لا بدّ له منه، واستعطفهم، وذكّرهم بيعته في أعناقهم مرّة بعد أخرى، وخوّفهم عاقبة النكث، وأمر هارون بالخروج من بغداد، وأقطعه الثغور الشاميّة والجزريّة، وخرج من بغداد تاسع المحرّم من هذه السنة، وراسلهم المقتدر، وذكّرهم نعمه عليهم وإحسانه إليهم، وحذرهم كفر إحسانه، والسعي في الشرّ والفتنة.
فلمّا أجابهم إلى ذلك دخل مؤنس وابن حَمدان ونازوك إلى بغداد، وأرجف الناس بأنّ مؤنساً ومن معه قد عزموا على خلع المقتدر وتولية غيره، فلمّا كان الثاني عشر من المحرّم خرج مؤنس والجيش إلى باب الشَّمّاسيّة، فتشاوروا ساعة، ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم، فلّما زحفوا إليها، وقربوا منها، وهرب المظفَّر بن ياقوت، وسائر الحجّاب والخدم وغيرهم، والفرّاشون، وكلّ مَن في الدار؛ وكان الوزير أبو عليّ بن مقلة حاضراً، فهرب ودخل مؤنس والجيش دار الخليفة، وأخرج المقتدر، ووالدته، وخالته، وخواصّ جواريه، وأولاده، من دار الخلافة، وحُملوا إلى دار مؤنس، فاعتُقلوا بها.
وبلغ الخبر هارون بن غريب، وهو بقُطْرَبُّل، فدخل بغداد واستتر، ومضى ابن حَمدان إلى دار ابن طاهر، فأحضر محمّد بن المعتضد، وبايعوه بالخلافة، ولقّبوه القاهر بالله، وأحضروا القاضي أبا عمر عند المقتدر ليشهد عليه بالخلع، وعنده مؤنس، ونازوك، وابن حَمدان، وبنّيّ بن نفيس، فقال مؤنس للمقتدر ليخلع نفسه من الخلافة، فأشهد عليه القاضي بالخلع، فقام ابن حَمدان وقال للمقتدر: يا سيّدي يعزّ عليّ أن أراك على هذه الحال، وقد كنتُ أخافها عليك، وأحذرها، وأنصح لك، وأحذّرك عاقبة القبول من الخدم، والنساء، فتؤثر أقوالهم على قولي، وكأنّي كنتُ أرى هذا، وبعد، فنحن عبيدك وخدمك.
ودمعت عيناه وعينا المقتدر، وشهد الجماعة على المقتدر بالخلع، وأودعوا الكتاب بذلك عند القاضي أبي عمر، فكتمه ولم يُظهر عليه أحداً، فلمّا عاد المقتدر إلى الخلافة سلّمه إليه، وأعلمه أنّه لم يطلع عليه غيره، فاستحسن ذلك منه، وولاّه قضاء القضاة.
ولّما استقرّ الأمر للقاهر أخرج مؤنس المظفَّر عليَّ بن عيسى من الحبس، ورتّب أبا عليّ بن مقلة في الوزارة، وأضاف إلى نازوك مع الشُّرطة حجبة الخليفة، وكتب إلى البلاد بذلك، وأقطع ابن حَمدان، مضافاً إلى ما بيده من أعمال طريق خُراسان، وحُلوان، والدينور، وهَمَذان، وكَنكور، وكَرْمان، وشاهان، والرّاذنات، ودقُوقَا، وخَانيجار، ونَهاوَنْد، والصّيمرة، والسِّيروان، وماسَبَذان وغيرها، ونُهبت دار الخليفة، ومضى بنّيّ بن نفيس إلى تربة لوالدة المقتدر، فأخرج من قبر فيها ستّمائة ألف دينار، وحملها إلى دار الخليفة.
وكان خلع المقتدر النصف من المحرّم، ثمّ سكن النهب، وانقطعت الفتنة؛ ولّما تقلّد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجّالة المصافيّة بقلع خيامهم من دار الخليفة، وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا بمكان المصافيّة، فعظم ذلك عليهم، وتقدّم إلى خلفاء الحجّاب أن لا يمكنوا أحداً من الدخول إلى دار الخليفة، إلاّ من له مرتبة، فاضطربت الحجبة من ذلك.

.ذكر عود المقتدر إلى الخلافة:

لّما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرّم بكّر الناس إلى دار الخليفة لأنّه يوم موكب دولة جديدة، فامتلأت الممرّات، والمراحات، والرَّحاب، وشاطئ دجلة من الناس، وحضر الرجّالة المصافيّة في السلاح الشاكّ، يطالبون بحقّ البيعة، ورزق سنة، وهم حنقون بما فعل بهم نازوك، ولم يحضر مؤنس المظفَّر ذلك اليوم.
وارتفعت زعقات الرجّالة، فسمع بها نازوك، فأشفق أن يجري بينهم وبين أصحابه فتنة وقتال، فتقدّم إلى أصحابه، وأمرهم أن لا يعرضوا لهم، ولا يقاتلوهم، وزاد شغب الرجّالة، وهجموا يريدون الصحن التسعينيّ، فلم يمنعهم أصحاب نازوك، ودخل من كان على الشطّ بالسلاح، وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله، وعنده أبو عليّ بن مقلة الوزير، ونازوك، وأبو الهيجاء بن همدان، فقال القاهر لنازوك: اخرج إليهم فسكّنهم، وطيّب قلوبهم! فخرج إليهم نازوك وهو مخمور، وقد شرب طول ليلته، فلمّا رآه الرجّالة تقدّموا إليه ليشكوا حالهم إليه في معنى أرزاقهم، فلمّا رآهم بأيديهم السيوف يقصدونه خافهم على نفسه فهرب، فطمعوا فيه، فتبعوه، فانتهى به الهرب إلى باب كان هو سدّة أمس، فأدركوه عنده، فقتلوه عند ذلك الباب، وقتلوا قبله خادمه عجيباً، وصاحوا: أي مقتدر، يا منصور! فهرب كلّ مَن كان في الدار من الوزير، والحجّاب، وسائر الطبقات وبقيت الدار فارغة، وصلبوا نازوك وعجيباً بحيث يراهما مَن على شاطئ دجلة.
ثمّ صار الرجّالة إلى دار مؤنس يصيحون، ويطالبونه بالمقتدر، وبادر الخدم فأغلقوا أبواب دار الخليفة، وكانوا جميعهم خدم المقتدر، ومماليكه، وصنائعه، وأراد أبو الهيجاء بن حَمدان أن يخرج من الدار، فتعلق به القاهر وقال: أنا في ذمامك؛ فقال: والله لا أسلّمك أبداً؛ وأخذ بيد القاهر وقال: قم بنا نخرج جميعاً، وأدعو أصحابي وعشيرتي فيقاتلون معك ودونك.
فقاما ليخرجا، فوجدا الأبواب مغلقة، فتبعهما فائق وجه القصعة يمشي معهما، فأشرف القاهر من سطح، فرأى كثرة الجمع، فنزل هو وابن حمدان وفائق، فقال ابن حَمدان للقاهر، قف حتّى أعود إليك؛ ونزع سواده وثيابه، وأخذ جبّة صوف لغلام هناك، فلبسها ومشى نحو باب النوبى، فرآه مغلقاً والناس من ورائه، فعاد إلى القاهر، وتأخّر عنهما وجه القصعة ومَن معه من الخدم، فأمرهم وجه القصعة بقتلهما أخذاً بثأر المقتدر وما صنعا به، فعاد إليهما عشرة من الخدم بالسلاح، فعاد إليهم أبو الهيجاء وسيفه بيده، ونزع الجبّة الصوف، وأخذها بيده الأخرى، وحمل عليهم، فانجفلوا بين يديه، وغشيهم، فرموه بالنشاب ضرورة، فعاد عنهم، وانفرد عنه القاهر ومشى إلى آخر البستان فاختفى فيه.
ودخل أبو الهيجاء إلى بيت من ساج، وتقدّم الخدم إلى ذلك البيت، فخرج إليهم أبو الهيجاء، فولّوا هاربين، ودخل إليهم بعض أكابر الغلمان الحجريّة، ومعه أسودان بسلاح، فقصدوا أبا الهيجاء، فخرج إليهم فرُمي بالسهام فسقط، فقصده بعضُهم فضربه بالسيف فقطع يده اليمنى، وأخذ رأسه فحمله بعضهم، ومشى وهو معه.
وأمّا الرجّالة فإنّهم لّما انتهوا إلى دار مؤنس وسمع زعقاتهم قال: ما الذي تريدون؟ فقيل له: نريد المقتدر؛ فأمر بتسليمه إليهم، فلمّا قيل للمقتدر ليخرج خاف على نفسه أن تكون حيلة عليه، فامتنع، وحُمل وأُخرج إليهم، فحمله الرجّالة على رقابهم حتّى أدخلوه دار الخلافة، فلمّا حصل في الصحن التسعينيّ اطمأنّ وقعد، فسأل عن أخيه القاهر، وعن ابن حَمدان، فقيل: هما حيّان؛ فكتب لهما أماناً بخطّه، وأمر خادماً بالسُّرعة بكتاب الأمان لئلاّ يحدث على أبي الهيجاء حادث، فمضى بالخطّ إليه، فلقيه الخادم الآخر ومعه رأسه، فعاد معه، فلمّا رآه المقتدر، وأخبره بقتله، قال: أنا لله وإنّا إليه راجعون! مَن قتله؟ فقال الخدم: ما نعرف قاتله؛ وعظم عليه قتله: وقال: ما كان يدخل عليّ ويسلّيني، ويُذهب عنّي الغمّ هذه الأيّام غيره.
ثمّ أُخذ القاهر وأُحضر عند المقتدر، فاستدناه، فأجلسه عنده وقبّل جبينه وقال له: يا أخي قد علمتُ أنّه لا ذنب لك، وأنّك قُهرتَ، ولو لقّبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر؛ والقاهر يبكي ويقولك يا أمير المؤمنين! نفسي، نفسي، اذكر الرّحِم التي بيني وبينك! فقال له المقتدر: وحقّ رسول الله لا جرى عليك سوءٌ منّي أبداً، ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حيّ! فسكن، وأُخرج رأس نازوك، ورأس أبي الهيجاء، وشُهرا، ونودي عليهما: هذا جزاء من عصى مولاه.
وأمّا بني بن نفيس فإنّه كان من أشدّ القوم على المقتدر، فأتاه الخبر برجوعه إلى الخلافة، فركب جواداً وهرب عن بغداد، وغيّر زيّه، وسار حتى بلغ الموصل، وسار منها إلى أرمينية، وسار حتّى دخل القسطنطينيّة وتنصّر.
وهرب أبو السَّرايا نصر بن حَمدان أخو أبي الهيجاء إلى الموصل، وسكنت الفتنة، وأحضر المقتدر أبا عليّ بن مقلة، وأعاده إلى وزارته، وكتب إلى البلاد بما تجدّد له، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم، وباع ما في الخزائن من الأمتعة والجواهر، وأذن في بيع الأملاك من الناس، فبيع ذلك بأرخص الأثمان، ليتم أعطيات الجند.
وقد قيل إنّ مؤنساً المظفَّر لم يكن مؤثراً لما جرى على المقتدر من لخلع، وإنّما وافق الجماعة مغلوباً على رأيه، ولعلمه أنّه إن خالفهم لم ينتفع به المقتدر، ووافقهم ليؤمنوه، وسعى مع الغلمان المصافيّة والحجريّة، ووضع قوّادهم على أن عملوا ما عملوا، وأعادوا المقتدر إلى الخلافة، وكان هو قد قال للمقتدر، لمّا كان في داره: ما تريدون أن نصنع؟ فلهذا أمّنه المقتدر، ولّما حملوه إلى دار الخلافة من دار مؤنس ورأى فيها كثرة الخلق والاختلاف عاد إلى دار مؤنس لثقته به، واعتماده عليه، ولولا هوى مؤنس مع المقتدر لكان حضر عند القاهر مع الجماعة، فإنّه لم يكن معهم كما ذكرناه، ولكان أيضاً قتل المقتدر لّما طُلب من داره ليعاد إلى الخلافة.
وأمّا القاهر فإنّ المقتدر حبسه عند والدته، فأحسنت إليه، وأكرمته، وسعت عليه النفقة، واشترت له السراري والجواري للخدمة، وبالغت في إكرامه والإحسان إليه بكلّ طريق.